بدأ تاريخ الهجرة السودانية إلى بولندا منذ بداية الخمسينيات وفي وقت مبكر للقرن الماضي وحسب العلاقة بين الزملاء من الجيل القديم تحديداً في عام 1953حتى قبل استقلال السودان. وكان عدد الوافدين قليل جداً (ثلاثة أو أربعة اشخاص) وكان الهدف من هذه الزيارة – ليس صعب التخمين - للدراسة.

رغم أنه لايتوفر في هذا الوقت المعلومات الدقيقة والبيانات المحددة عن عدد السودانيين خصوصاً ممن جاء في الفترات اللاحقة ولكن حسب المعلومات التي يقدمها الطلاب أنفسهم من سنة إلى سنة ولهذا يمكن القول بثقة أن عدد الوافدين من بلد الصحراء والغابات هم عشرات الأشخاص في الستينات والسبعينات ولكن عدد السودانيين بدأ يتقلص في أواخر السبعينات واستمر بالتناقص في السنوات اللاحقة.

بعد التغيرات المنهجية والسياسية التي وقعت في السودان في حزيران/ يونيو 1989 عندمت تولى المجلس العسكري السلطة في انقلاب عسكري تغيرت أسباب وأهداف القدوم إلى بولندا. في هذه اللحظة لم يعد هناك عمليا طلاب من السودان، في الغالب معظمهم هم من الأشخاص الذين بقوا ما بعد التخرج. العدد التقديري للسودانيين المقيمين في بولندا اليوم هو نحو 50 شخصا.

 

كان التواجد السوداني في بولندا إلى حد ما منظما ذاتياً. وعند الانتهاء من الدورة السنوية في مدرسة اللغة البولندية للأجانب في جامعة  ووج (وهي من أقدم وأفضل المدارس ليس فقط للغة، ولكن للحياة بشكل عام) وكان لا بد من اختيار الكلية والمدينة التي ينوي قضاء الخمس أو الست سنوات المقبلة للدراسة فيها.

 العامل الهام الذي لعب دورا رئيسيا في إختيار الكلية أوالمدينة كان مجال الدراسة وأيضاً حجم الجالية الوطنية (في هذه الحالة عدد السودانيين)  وبالطبع سمعة الجامعة. معظم الناس يختارون دراسة الطب والمدن الرئيسية  وهذا كان اختيار الطلبة السودانيين في كراكوف ، وارسو ، كاتوفيتسا، ووج، بوزنان، فروتسواف.

نحن كسودانيين مرتبطون جداً بثقافتنا اليومية ونمط الحياة اليومية. هذه النتيجة هي من بنيتنا الاجتماعية وبفضل هذا نحن سعداء بكوننا نشكل بيئة واحدة. على العموم نحن معاً في السراء والضراء نجتمع بمختلف المناسبات وخصوصا العطل منها الدينية والوطنية. المحور الرئيسي لهذه الاجتماعات هو إقامة الولائم معاً وإعداد وجبات الطعام وبالطبع تناوله معاً. و لكن هذا ليس فقط الهدف من لقاءاتنا. نناقش بالمناسبة شؤوننا الحالية، ووضعنا في بولندا، وخطط الحياة وللأسف لأكثر من عقدين من الزمن ونحن نناقش على نطاق واسع حول مستقبل بلدنا الذي هو في خطر الانقسام إلى دولتين إذا كان هذا ما ستقرره نتيجة الاستفتاء الذي سيعقد قريباً في 9 يناير/كانون الثاني 2011.

حياتنا اليومية في وارسو هي مزيج من وضعين للحياة – السودانية والبولندية (تطغى عليه وتيرة الحياة السريعة في وارسو وضيق الوقت لفعل أي شيء). أعتقد أن كلمة "الترابط" لا يعكس أهمية هذه الظاهرة  و ربما كلمة"المواجهة"  تكون أكثر دقة. من ناحية نحاول جاهدين إتمام عملية الاندماج هنا بنجاح ومن ناحية أخرى نحاول الحفاظ على تقاليدنا وثقافتنا ويبدو أننا نجحنا إلى حد كبير في هذا المزج.

عندما نقارن  الأعوام الحالية مع أوائل أعوام التسعينات يجب علينا أن نعترف بأن نشاطنا الاجتماعي انخفض كان لدينا نحن السودانيون  جدول زمني للأحداث والأنشطة لايمكن مقارنتها لكثرة ثرائها بما نقوم به حاليا. اليوم ولأسباب مختلفة  يبدو نشاطنا بسيطا وغير مرئي عما كان في الماضي -  ويرجع ذلك أساسا لأنه متعلق بالأفراد، وليس بمجموعات منظمة. من سمة الأنشطة الاجتماعية أن الناس لا يرغبون فيها لأنها تتطلب الكثير من التفاني ولا تحقق فوائد ملموسة. لكن على الرغم من هذا نكررالمحاولات المستمرة للتغلب على هذه العقبات وإعادة تفعيل المجتمع السوداني في المجالين الثقافي والاجتماعي.

في وارسو تم إنشاء ثلاث منظمات غير حكومية رسمية  أسسها السودانيون الذين يعيشون في وارسو وهم  يديرونها وهي: جمعية "النيل - فيستولا" ومؤسسة من أجل الديمقراطية والتنمية ومؤسسة "قلب أفريقيا". باعتبارها الشريك المؤسس لجمعية "النيل - فيستولا" بكل أسف أقول أنه لم تعمل بالطريقة التي كنت قد تصورتها لها حين إنشائها. ومع ذلك نجحنا بشكل إيجابي في كثير من الحالات بتقديم  مختلف الأحداث والفعاليات الثقافية في العاصمة وخارجها.

في الواقع ليس هناك مكان دائم في وارسو ليلتقي السودانيين إنما يحدث ذلك بصورة تلقائية عند أي أحد منا خاصة في بيوتنا الخاصة. في أيام العطل وخاصة خلال شهر مضان نجتمع عند أحد أقدم الزملاء من مجتمنا. مكانة وسلطة كبار السن بالنسبة لنا لا يمكن إنكارها  ومن الجدير بالذكر أن هذا النوع من المؤسسات غير الرسمية للمسنين تعمل بشكل جيد وهي مستمدة من العصور القديمة ومفيدة جدا وخصوصا في حل المشاكل الحيوية لأعضاء  المجتمع السوداني. ولحسن الحظ، هذه المؤسسة تعمل بشكل جيد، ليس فقط  بين السودانيين في وارسو ولكن أيضا في أماكن أخرى في بولندا.

 

للمهتمين  بالسودان والسودانيين الباب مفتوح للجميع بشكل واسع ونحن سنكون سعداء بالحديث عن عدة قضايا بطبيعة الحال مع الوجبة الاستوائية السودانية. وللخوض في المطبخ السوداني يمكن تحديده بشكل كبير وبسيط كالتحام بين العربي والأفريقي وأنه من المستحيل أن نذكر هنا كل الأطباق اللذيذة. لذلك اسمحوا لي أن أقدم لكم أبسط وصفة للطبق الأكثر شعبية في السودان وهو الفول الذي يؤكل يومياً على الإفطار في كل منزل سوداني  بصرف النظر عن الحالة الاجتماعية أو المادية.

عوض جابر